بحسب “الميادين”، بعد أيام من التردد في اتخاذ أيّ موقف عملي ضد العدوان الصهيوني على غزة، إذ تراجعت تصريحاته حول هجمات حماس البطولية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، يبدو أن الرئيس إردوغان بدأ يعيد النظر في تصريحاته ومواقفه العنيفة ضد “إسرائيل”. وقد قال عنها ما كان يقوله في الماضي من “إرهاب نتنياهو إلى إرهاب الدولة المدعومة من الدول الإمبريالية”، على حد قوله.
وتفسر بعض الأوساط السياسية التغيير المفاجئ في موقف الرئيس إردوغان بتواطؤ الأنظمة العربية وفشل الدول العربية والإسلامية معاً أو على انفراد في اتخاذ أي موقف عملي وفعال لإيقاف المجازر الصهيونية في غزة والضفة الغربية، على الرغم من تصريحاته العنيفة المستمرة.
كما أنَّ هذا التراجع جاء بعد رد فعل العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، على الموقف التركي، وانعكس فشلاً على زيارة وزير المالية محمد شيمشاك الذي كان قبل أسبوعين في جولة أوروبية بهدف الحصول على دعم مالي منها ومن المنظمات المالية الدولية، وأهمها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الأوروبية التي تتأثر بموقف اللوبيات الصهيونية.
ولم تخفِ هذه اللوبيات رد فعلها، ومعها المسؤولون الصهاينة وأبواقهم في الخارج، على تصريحات الرئيس إردوغان بعد خطابه العنيف السبت الماضي في إسطنبول وإعلانه الحداد لمدة 3 على شهداء غزة لكسب تعاطف الرأي العام العربي والإسلامي وتضامنه.
وجاءت قمّة الدول الناطقة بالتركية الجمعة في أستانة لتعكس التراجع التركي عموماً في الموقف المعادي لـ”إسرائيل”، وهي تحمل في طياتها الكثير من التناقضات؛ فقد تهرب الزعماء المشاركون في القمة، وهم رؤساء تركيا وكازاخستان وتركمنستان وأوزبكستان وقرغيزيا وأذربيجان وهنغاريا (بصفة مراقب)، من مهاجمة “إسرائيل” بشكل مباشر، واكتفوا “بدعوة الطرفين المتقاتلين إلى التهرب من استهداف المدنيين”.
يعني ذلك فشل الرئيس إردوغان في إقناع هؤلاء الزعماء ذوي الأصل التركي بالوقوف إلى جانبه في الحرب الكلامية والنفسية ضد الكيان الصهيوني. وكان هذا سبباً لانتقادات عنيفة من المعارضة الداخلية التي اتهمته بإطلاق شعارات ومقولات حماسية ضد “إسرائيل” من دون أي موقف عملي للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
وناشد آخرون الرئيس إردوغان إرسال المسيّرات التركية إلى غزة، كما أرسلها إلى كييف لاستخدامها ضد روسيا، في الوقت الذي أشارت أوساط أخرى إلى استمرار العلاقات الاقتصادية والتجارية بين أنقرة و”تل أبيب”.
تحقّق هذه العلاقات كل عام أرقاماً قياسية لم تتأثر بالتوترات المتكررة بين الطرفين. وقد انتهت باللقاء المهم بين نتنياهو وإردوغان في 20 أيلول/سبتمبر الماضي في نيويورك، وعادت إلى وضعها التقليدي بسبب مجازر الكيان الصهيوني في غزة.
وقد أثبتت الأرقام أن هذه المجازر لم تؤثر في موقف أنقرة الداعم لـ”تل أبيب” بشكل غير مباشر ولكنه خطر؛ فبعد وصول القاذفات الاستراتيجية الأميركية إلى قاعدة إنجيرليك جنوب تركيا، والحديث عن استنفار العمل في قاعدة كوراجيك التي تستهدف إيران، ووصول الوزير بلينكن إلى أنقرة الليلة الماضية، جاء حديث رئيس جمعية مصدري الفولاذ التركي عدنان أصلان (وفقاً لوكالة الأناضول الحكومية الرسمية) ليثير العديد من التساولات بشأن مضمون العلاقات التركية الإسرائيلية.
قال أصلان: “إن إسرائيل تغطي 65% من استهلاكها للفولاذ من الأسواق التركية”. يعني ذلك أن ما تستخدمه “إسرائيل” من الفولاذ في صناعة طائراتها ودباباتها، وحتى قنابلها وذخيرتها التي تقتل بها أطفال غزة ونساءها، مصدره تركيا، وهذه هي الحال بالنسبة إلى البنزين والمازوت الذي تستخدمه الطائرات والدبابات والمدرعات وكل الصناعات الحربية، فهو أيضاً يصل إليها عبر تركيا، إذ تغطي أذربيجان وكازاخستان 60%-62% من استهلاك “إسرائيل” من البنزين والمازوت الذي يصل إلى ميناء حيفا قادماً من ميناء جيهان التركي.
ويصل النفط الأذربيجاني والكازاخستاني بواسطة الأنابيب الممتدة من باكو إلى جيهان، وتقوم السفن الضخمة التي يقال إن أبناء إردوغان والمقربين منه يملكونها بنقله إلى ميناء حيفا.
يفسّر ذلك رفض كازاخستان وأذربيجان إصدار أي بيان ضد “إسرائيل” في قمة الدول الناطقة باللغة التركية، كما يفسر دعم رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان لهما، على الرغم من علاقاته الشخصية الوطيدة بإردوغان والرئيس بوتين.
ولم يمنعه ذلك الأسبوع الماضي من الوقوف إلى جانب “إسرائيل” خلال التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قرار يطالب بوقف العدوان الصهيوني على غزة.
جاء موقف هذه الدول الثلاث الرافض دعوة رئيس جمهورية شمال قبرص التركية أرسين تتار إلى القمة المذكورة رغم أنه شارك في القمة الأخيرة في سمرقند قبل عامين، ليثبت مدى تأثير “تل أبيب” في الدول المذكورة، وفيها لوبيات يهودية صهيونية تخدم أجندات “تل أبيب” التي دعمت أذربيجان في حربها الأخيرة في كاراباخ، ولكنها في الوقت نفسه كانت، وما زالت، الحليف الاستراتيجي للقبارصة اليونانيين الذين يمثلون جمهورية قبرص المعترف بها دولياً.
ولا يعترف أحد بجمهورية شمال قبرص التركية سوى أنقرة التي فشلت في إقناع الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي بالاعتراف بهذه الجمهورية التي اشترى اليهود فيها مساحات واسعة من الأراضي بعدما أنشأوا في شرقها مرفأ يضم كل المعدات الإلكترونية التي قد يتم استخدامها لمراقبة السواحل السورية واللبنانية القريبة منه، مع التذكير أن اللوبيات اليهودية في تركيا كانت تهاجم حماس وتقول للشعب التركي إن فلسطين (رسمياً ليست دولة) لا تعترف بجمهورية شمال قبرص التركية، في الوقت الذي تدعم “إسرائيل” أذربيجان.
وينسى أو يتناسى أتباع “تل أبيب” أن أذربيجان و”إسرائيل” وكل الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي لا تعترف بجمهورية قبرص التركية، ولا تقيم معها أي نوع من العلاقات الاقتصادية والتجارية، وترجح عليها القبارصة اليونانيين، وأن “تل أبيب” تجري معهم ومع اليونان مناورات سنوية براً وبحراً وجواً ضد العدو المشترك، وهو في هذه الحالة تركيا وسوريا ومصر وفلسطين المجاورة للجزيرة والكيان الصهيوني.
ويبقى الرهان الأخير على الموقف المحتمل للرئيس إردوغان الذي قال في طريق عودته من قمة أستانة: “بالنسبة إليّ، هناك شخص لم يعد يمكنني التحدث إليه بأي شكل من الأشكال، وهو نتنياهو، فقد محوته ورميته جانباً”، وهو ما قاله إردوغان سابقاً عن نتنياهو ومحمد بن سلمان ومحمد بن زايد والرئيس السيسي، الذين كانوا جميعاً أصدقاءه حتى الشهر الماضي، أي قبل ملحمة غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وما بعد هذه الملحمة لا ولن يكون كما كان قبلها، حتى لو اجتمع كل السفهاء والسفلاء.