Topثقافة

التراث الثقافي الأرمني وتأثيره في التراث الثقافي السوري … فيديو

وصل الأرمن إلى بلاد الشام في موجة نزوح جديدة بعد تعرضهم لإبادة جماعية كبرى في العام 1915 .

في الحرب العالمية الاولى أعلن العثمانيون النفير العام فأرسل الأرمن أبنائهم لخدمة العلم وصدر الأمر بتجريد الجنود الأرمن من سلاحهم وضمّهم الى كتائب السخرة ثم طلب منهم حفر خنادق دفاعية وتم قتلهم جميعاً ودفنوا في هذه الخنادق الدفاعية، وتم الاتفاق مع عصابات الأكراد للإغارة على بيوت الأرمن ونهبها وسبي النساء والأطفال وقتل كبار السن، وسارت سوقيات الترحيل تحمل ما بقي من أشباه الأحياء لنقلهم إلى صحارى بلاد الشام والعراق. ولم يسمح لهم إلّا الخروج بثيابهم وكانت تصادر أكياس الطحين الصغيرة التي كان يحملها أطفال الأرمن معهم لتعينهم للبقاء على قيد الحياة. ولكن هل يقودنا هذا إلى أن الأرمن لم يحملوا أي ثقافة معهم إلى بلاد الشام أو العراق؟…الجواب لا… لقد حملوا الكثير ومنذ ما قبل الإبادة بكثير وأيضاً ما بعدها.

قد يكون للثقافة أكثر من تعريف ولكن يمكن أن يكون تعريف الرديف هو الأكثر منطقية وقرب للواقع فيقال أن الثقافة هي الرديف الداعم لوجود الإنسانية وبقائها وخدمتها. وكان للأرمن ولا زال ثقافات خاصة ومتميزة عرفها العرب فيهم منذ الفتح العربي لأرمينيا وأحبوها كلها بشغف.

ثقافة العلم والتعليم

كان باب العلم والتعليم مفتوحاً على مصراعيه في أرمينيا، وانضمَّ علماء العرب إليها وجلّهم من بلاد الشام، إنضمّوا إلى العلماء الأرمن في أرمينيا، ففي الوقت الذي كان لا يسمح فيه بتشريح الجثث في بلاد الشام والبلاد العربية لأسباب دينية، والتشريح هو ثقافة علوم الطب الأساسية وأبجديتها، كان التشريح مسموحاً في أرمينيا فحدثت الاستفادة العلمية بسبب التنوع الثقافي الأرمني، أما العلاقات الطيبة والحوار الراقي والفهم والتفهم فلقد أدى إلى نتائج علمية باهرة في مختلف صنوف العلوم وهناك علماء أرمن في الرياضيات والهندسة والجبر وأطباء كثيرون تعاونوا مع العلماء العرب وأطلقت عليهم أسماء وألقاب عربية وتعلموا العربية ليقفوا وقفة الند مع أقرانهم. وهكذا فلقد تم اعتماد كتب الطب والتشريح العائدة لأطباء عرب وأطباء أرمن وحتى الآن في كبريات الجامعات الأوروبية، وكان هذا النتاج هو خلاصة التعاون العلمي والثقافي الخلاق.

ثقافة الأدب والشعر

وكان من أحب الشعراء العرب على قلوب الأرمن أبو العلاء المعري فلقد كانت له أفضال كثيرة وكانت كلمته مسموعة لدى الولاة والحكام من العرب الذين تمت توليتهم على بلاد الأرمن وما جاورها والغزاة الذين جاؤوا بعد انسحاب العرب، وكان الرجل صديقاً صدّوقاً للأرمن ولا يقبل بأن يتعرض لهم أحد .

وتم في قسم الاستشراق في جامعة يريفان ومنذ العهد السوفياتي جمع كافة الأعمال الأدبية لأبو العلاء المعري وطبعت كلها بالعربية بأحرف بيضاء على صفحات سوداء . وفي هذا العمل الثقافي الخلّاق تمجيد كبير للشاعر العظيم واعتراف بالجميل. وتوجد نواد أرمنية ثقافية في دمشق تحمل اسم ابو العلاء المعري وتفتخر بتبني هذا الاسم. وفي النهاية وللتاريخ أقول لو أن الأرمن كانوا تحت حماية الامبراطورية العربية في العام 1915 لما حدثت المجزرة الكبرى …

ثقافة الحجارة

يعد سنان باشا الأرمني أشهر معماري عثماني عاش في العصر الذهبي للعمارة العثمانية (1489-1558) وكان رئيس المعماريين وأشهرهم خلال حكم السلطان: سليم الأول وسليمان الأول وسليم الثاني ومراد الثالث. ولد في قرية آغيرناص التابعة لولاية قيصرية في الأناضول وكان من أصل ارمني، وانضم للجيش الانكشاري في فترة حكم السلطان سليم الأول، واضطلع في فترة مكوثه في الجيش على الآثار البيزنطية والسلجوقية والإيرانية والعربية في حلب ودمشق والقاهرة…وأطلق ثقافته الارمنية الخاصة المسماة ثقافة الحجارة في القارات الثلاثة السابق ذكرها وكان لمدينة دمشق قسم لا بأس به من أعماله.

ويعتبر جامع الخشرفية في حلب من أولى أعماله، وهو مشيد بجمال ودقة متناهيتين.

وكذلك جامع التكية السليمانية في دمشق المشيد بين عامي 1554-1555م، وجامع شهزاد محمد وكليته وجامع السليمانية في إستانبول، وجامع السليمية في أدرنة.

ثقافة الحرفية

جاء الأرمن من أرمينيا في الهجرة الأخيرة 1915 حفاة عراة، تستر عوراتهم بقايا خرق بالية، وكان لا بد لهم للإرتزاق من القيام بأعمال حرفية لا تحتاج لرأسمال فعملوا في صناعة الاحذية. فبدؤوا بصناعة الصنادل مستخدمين جلود الإبل، وكان هدفهم تأمين مستهلك دائم لمنتجاتهم فبرعوا في الحرفية، فكانت صناعتهم تعمّر طويلاً الى درجة أنها ترمى جانباً ليس بسبب الاهتراء بل بسبب الملل، وكذلك الخياطة فلقد برع الارمن في هذا المجال وعملوا في هذا المضمار، وبالطبع لم يحاولوا نقل ملابسهم الفولكلورية إلى حيث وصلوا والسبب هو اختلاف الثقافات واختلاف المكان ففي أرمينيا درجات الحرارة منخفضة، وفي أرمينيا الشمالية والقوقاز بالتحديد تصل درجة الحرارة إلى الخمسين تحت الصفر، وبالطبع لا يمكن نقل ملابس مخصصة لهذه الأمكنة إلى دير الزور مثلاً، وتعلم الأرمن خياطة الملابس الاوروبية، خاصة وان الانتداب الفرنسي على سورية كان في البدايات فتعلموا الخياطة في المياتم ومن الراهبات في الإرساليات التبشرية. وكانت هذه الحرفة طريقهم لكسب المال الحلال فنشروها في حلب ودمشق وفي كل أماكن تواجدهم وبرعوا في ذلك، وكان هذا البعد الثقافي هاماً جداً لأنه وفّر زبائن دائمين، نجح الأرمن في تقديمه كبعد ثقافي إنساني بهدف تأمين الرزق وبادرة عرفان بالجميل للذين استضافوهم وقاسموهم الزاد وكسرة الخبز.

ثقافة الاتقان

لم تكن في أرمينيا سيارات ولا صناعة سيارات، ولا شاحنات ولا باصات ولا ساعات ولا تصليح ساعات، ولكن الأرمن وبتقديمهم لثقافة الاتقان برعوا أولاً بالتعلّم، ففي حلب مثلاً كانت هناك تجمّعات تحوي الرحبات لتصليح وصيانة قطارات الخط الحديدي الحجازي أو ما يعرف بخط قطار الشرق السريع وكانت هذه الرحبات بإشراف صناعيين ألمان وكانوا حلفاء للدولة العثمانية، وتطوّع الأرمن للخدمة في هذه الرحبات فتعلموا صناعة الحديد والنار، وأحبهم الألمان ولم يبخلوا بتعليمهم. وعندما استقلت بلاد الشام طبّق الأرمن ما تعلموه واشتغلوا بصناعات الحديد والنار وبإتقان من علّمهم، وجاء الفرنسيون فيما بعد فصقلوا مهارتهم.

ثقافة الصدق والأمانة

في عهد الدولة الأموية دان معظم العالم المتمدن للخلافة العربية ومركزها دمشق. وكان يتمّ صك النقود الذهبية العربية الأموية في أرمينيا حصراً. وبالطبع لم يخطر السؤال الآتي في ذهن أحد (لماذا في أرمينيا حصراً وحدود الدولة الأموية يمتد من الصين الى الاندلس)، أما الجواب على هذا السؤال فيكمن في ثقافة الصدق والامانة بحيث إن تم إرسال رطل من الذهب ضمن عيار معروف من دمشق الى أرمينيا فإنه سيعود من أرمينيا إلى دمشق على شكل مصكوكات وبنفس الوزن ونفس العيار.

ثقافة الاخلاص

أحب الأرمن سورية فلقد كانت بالنسبة لهم موطنهم الثاني بعد الكارثة التي تعرضوا لها في العام 1915، وعملوا بجد وإخلاص ودافعوا عن حياض الوطن في حرب الـ 48 بعد أن ساهموا بتأسيس الجيش العربي السوري العقيد آرام قره مانوكيان وفي حرب الـ 67 وفي الـ 73 وحرب الاستنزاف وحرب لبنان والحرب الأخيرة. ورأوا معاملهم تفكك وتنهب وتباع في تركيا كخردة، دون أن يتمكن أحد من نجدتهم فغادر مغظمهم بصمت الى جنبات الأرض الاربعة وفي قلوبهم الحسرة.

هذا هو مجمل التراث الثقافي الأرمني، وقد قدمه الأرمن في سوريا وتبادلوه مع إخوانهم في سوريا على مرّ العصور ولا يعرفون قدر الاستجابة ولا الاستفادة. ولكنهم يعتقدون أنه أحدث أثر أو فارق، أما النوادي الثقافية الارمنية فلقد تحوّلت إلى نوادٍ شبابية لممارسة الرياضة وبعض الحفلات والانشطة والرقص الأرمني.

أما تأثير المطبخ الارمني بالمطبخ السوري وخاصة الشامي فيعتبر ضئيلاً نسبياً، لأن قوام المطبخ الارمني هو الشطة الحمراء الحارّة، وأن وضع هذه المادة في الطبخ الشامي كفيل بتوقف أهل الشام عن تناول الطعام، وبالمقابل فهناك بعض التأثير في المطبخ الحلبي لأن تعداد الارمن في حلب أكثر بكثير من عددهم في دمشق وخاصة قبل الأحداث (حلب 75000 )( دمشق 4000).

أما عادات الخطبة والزواج فلم تنتقل ولم تخرج من باب الكنيسة الارمنية ولم يتأثر بها أحد، لأن لها خصوصية معينة تتعلق بالأرمن فقط لأنها على المذهب الغريغوري وبقية الكنائس هي على مذاهب أخرى.

بقلم آراكسيا مقديسيان

إظهار المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى